جذور الصراع- غزة، التصعيد الإقليمي، البحث عن السلام العادل

في مطلع شهر أبريل، وتحديدًا في اليوم الأول منه، شنت الطائرات الحربية الإسرائيلية غارة جوية استهدفت مبنى القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية دمشق. بعد مرور أسبوعين تقريبًا، وفي الرابع عشر من نيسان، جاء الرد الإيراني على هذا الهجوم، حيث أطلقت إيران وابلاً من الطائرات المسيرة الانتحارية والصواريخ الباليستية التي تجاوز مداها 1700 كيلومتر. هذه الصواريخ والطائرات عبرت أجواء العديد من الدول العربية قبل أن يصل بعضها إلى سماء الأراضي المحتلة. العالم بأسره حبس أنفاسه، وتملكه الخوف من نشوب حرب إقليمية واسعة النطاق. أما القوى الغربية الكبرى، فقد استنفرت قواتها العسكرية والأمنية بشكل كامل. وقامت العديد من دول العالم بإلغاء رحلات الطيران المتجهة إلى المنطقة تحسبًا لأي تصعيد. جرت اتصالات دبلوماسية مكثفة، سرية وعلنية، بهدف منع المنطقة من الانزلاق إلى أتون حرب مدمرة لا تبقي ولا تذر.
هل هذه الأحداث وُلدت لتوها؟
من المؤكد أن هذه الأحداث لم تنشأ من فراغ. فالأحداث الأخيرة ترتبط بشكل وثيق ومباشر بالصراع العربي الإسرائيلي المتجذر، وعلى وجه الخصوص، ترتبط بحرب الإبادة الشرسة التي تشنها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني الأعزل في قطاع غزة. إن استهداف القنصلية الإيرانية ما هو إلا محاولة إسرائيلية يائسة لتغيير جوهر الصراع وتشتيت الانتباه عن المأساة الإنسانية التي تتكشف في غزة.
وهل بدأت الحرب على غزة في السابع من أكتوبر، أي بعد عملية "طوفان الأقصى" البطولية التي نفذتها المقاومة الفلسطينية الباسلة على غلاف غزة؟ بالطبع لا. هناك أسباب عميقة الجذور أدت وستظل تؤدي إلى نشوب حروب ونزاعات في المنطقة والعالم أجمع. هذه الأسباب تتلخص بكلمة واحدة: ضرورة البحث المعمق في جذور الصراع العربي الإسرائيلي، وتمكين الشعب الفلسطيني من الحصول على حقوقه المشروعة كاملة غير منقوصة، وأن يتمكن من تقرير مصيره بنفسه دون تدخل أو إملاءات خارجية، وأن يتمكن من بناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وأن يعود اللاجئون الفلسطينيون المشردون في أصقاع الأرض إلى ديارهم وممتلكاتهم التي هجروا منها قسرًا، استنادًا إلى قواعد القانون الدولي الراسخة.
وهل القوة العسكرية الغاشمة والمفرطة التي تستخدمها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني منذ عقود طويلة من المعاناة والظلم، سوف تحسم هذا الصراع؟ قطعًا لا. فالقوة المفرطة تمثل فعلًا، وهذا الفعل حتمًا سيولد رد فعل. ولو أن القوة المجردة من الحق كانت قادرة على حسم الصراع، لحسمته منذ زمن بعيد، حين كان الفلسطيني لا يملك سوى الحجر سلاحًا.
في الرابع والعشرين من شهر أكتوبر من العام الماضي، وأمام مجلس الأمن الدولي، صرح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بأن أحداث السابع من أكتوبر لم تنشأ من فراغ. هذا التصريح أثار غضب الغرب وإسرائيل، وشنوا هجومًا لاذعًا عليه، متهمين إياه بتبني الرواية الفلسطينية وتشجيع الإرهاب الفلسطيني.
كان الأمين العام للأمم المتحدة يقصد أمرًا واضحًا لا يحتمل التأويل، وهو أن إسرائيل دولة تمارس أبشع أنواع الجرائم والانتهاكات بحق الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس المحتلة وقطاع غزة المحاصر، كما أنها تمنع عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، مما يعمق الصراع ويطيل أمده، وأن عملية "طوفان الأقصى" جاءت كرد فعل طبيعي على هذه التراكمات الهائلة من الظلم والقهر.
في المقابل، تبنى الغرب الرواية الإسرائيلية الزائفة، زاعمًا أن قطاع غزة كان يعيش وضعًا أمنيًا مستقرًا وهادئًا قبل عملية "طوفان الأقصى"، وأن الهجوم الإسرائيلي على غزة يأتي كرد فعل منعزل تمامًا عن أي أسباب أخرى، وأن سببه الوحيد هو الهجوم نفسه. ثم قدم الغرب للاحتلال الإسرائيلي دعمًا عسكريًا ودبلوماسيًا غير مسبوق، وحماه من أية مساءلة قانونية ممكنة.
في الثامن من أكتوبر، انضم حزب الله اللبناني بشكل جزئي للمعركة، وأطلق عليها اسم "معركة دعم وإسناد". توترت جبهة الجنوب اللبناني بشكل ملحوظ، وتحولت إلى ساحة حرب يتبادل فيها الطرفان (إسرائيل وحزب الله) الضربات العسكرية في إطار قواعد اشتباك لا تزال مضبوطة حتى الآن، ولكنها مرشحة للانزلاق إلى حرب شاملة في أية لحظة. نتيجة لذلك، فقدت إسرائيل أمنها في الشمال، وتضرر اقتصادها بشكل كبير.
وفي الواحد والثلاثين من أكتوبر، انضمت جماعة أنصار الله الحوثيين إلى الحرب، ولكن على طريقتهم الخاصة، من خلال استهداف السفن الإسرائيلية أو السفن التي تحمل بضائع للإسرائيليين في البحر الأحمر. ثم وسعوا نطاق نشاطهم العسكري، وبدأوا في إرسال الطائرات المسيرة الانتحارية والصواريخ الباليستية إلى إسرائيل. وأصبحت منطقة البحر الأحمر ساحة حرب حقيقية. ثم انضمت الولايات المتحدة وبريطانيا إلى الحرب وبدأتا في قصف مواقع للحوثيين، فرد الحوثيون بتوسيع نطاق عملياتهم العسكرية ليشمل استهداف السفن العسكرية الأمريكية والبريطانية.
شنّت إسرائيل حربًا غير أخلاقية ضد سكان قطاع غزة المحاصر، وهي الحرب التي أُطلق عليها اسم "حرب الإبادة". قتلت المدنيين الأبرياء ودمرت الممتلكات المدنية. وأظهرت قوات الاحتلال "بطولات" زائفة ضد المستشفيات وقوافل النازحين وأماكن تجمعهم. قُتل أكثر من 34 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، بالإضافة إلى التدمير المنهجي للمنازل والمباني السكنية، وفرض حصار خانق على القطاع أُطلق عليه اسم "حرب التجويع": مات الناس جوعًا، بل إن بعضهم دُفنوا أحياء، أو استُهدفوا بطائرات مسيرة بينما كانوا يبحثون عن الطعام.
يشاهد العالم أجمع ما يجري في غزة من فظائع وجرائم حرب تتكشف لحظة بلحظة. خرجت المظاهرات المنددة في جميع دول العالم، بما فيها الدول الغربية نفسها، تعبيرًا عن الغضب والاستياء من نفاق الدول الغربية ودعمها اللامحدود للاحتلال الإسرائيلي المجرم بالسلاح والذخيرة والمواقف السياسية. ولكن هذه الدول لم تخجل من مواقفها واستمرت في تقديم الدعم للاحتلال بغض النظر عن خسائرها السياسية الداخلية.
عجزت مؤسسات الأمم المتحدة عن اتخاذ أية إجراءات فعالة لمنع حرب الإبادة التي تُشن على غزة؛ عجز مجلس الأمن، وعجزت الجمعية العامة، وعجزت محكمة العدل الدولية. هذا العجز فاقم الصراع ووسع نطاقه. كما عجزت المحكمة الجنائية الدولية، ولم يقم مدعيها العام بدوره الفعال في محاسبة مجرمي الحرب. قامت بعض الدول بمبادرات شجاعة ومنعزلة (مثل جنوب أفريقيا ونيكاراغوا) ضد سلوك الاحتلال وداعميه.
لم تستطع هذه المبادرات أن تخرق الجدار الصلب وأن تمنع الجرائم المرتكبة؛ لأنها كانت وحيدة، وكانت تتوقع دعمًا حقيقيًا من دول عربية وإسلامية، ومع ذلك فإن التاريخ قد سجل هذه المبادرات بحروف من نور في سجل الشرف.
بعد قيام إسرائيل باستهداف القنصلية الإيرانية ورد إيران على إسرائيل، يعيش العالم اليوم حالة من الترقب والقلق الشديدين. وتعيش منطقة الشرق الأوسط حالة من الغليان وعدم الاستقرار. هناك قلق حقيقي يساور بعض الدول التي تغافلت عن جوهر الصراع، واعتبرت أن رد إسرائيل الوحشي يأتي في إطار معركة سوف تنتهي قريبًا. وفوق ذلك كله، تعيش المنطقة المحيطة بالصراع حالة من الركود الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
صحيح أن الحكومة الإسرائيلية الحالية هي الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل، ولكن الصحيح أيضًا أن سلوك الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لم يكن أفضل حالًا، فهي تنفذ سياسة ممنهجة ترسمها مراكز الدراسات والأبحاث الإسرائيلية، تقوم على قضم الأراضي الفلسطينية، وتوسيع الاستيطان غير الشرعي، وتهويد مدينة القدس المحتلة، وكبت أو تدمير أية قوة فلسطينية، بغض النظر عن فكرها السياسي. بمعنى آخر، فإن الحكومات الغربية التي تعتقد أن الإطاحة برئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي يمكن أن يخمد جذوة الصراع الموجود، هو اعتقاد قاصر وخاطئ. وما عملية السابع من أكتوبر إلا حدث، على أهميته القصوى، كشف الوجه البشع والسياسات الإسرائيلية المزمنة.
إن النظر إلى الصراع العربي الإسرائيلي وكأنه بدأ مع حكومة يمينية متطرفة ثم اشتد مع عملية "طوفان الأقصى" هو تقييم غير منطقي وسطحي. فكل الأحداث التي حصلت وسوف تحصل في المنطقة هي انعكاس مباشر للظلم والقهر اللذين تمارسهما إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، وهي انعكاس للخداع الذي تمارسه الدول الغربية التي قدمت "مبادرات سلام" (مثل أوسلو وحل الدولتين) قائمة على تعزيز وجود الاحتلال وتكريسه و وأد القضية الفلسطينية وهي حية، وهي انعكاس لسياسة التضليل الاستراتيجي من خلال القول؛ إن القضية الفلسطينية أصبحت عبئًا ثقيلاً على العرب، ولا بد من تجاوزها والانطلاق نحو إقامة سياسات تطبيع مع إسرائيل، بما يحقق لكل دولة عربية مصالحها الخاصة الضيقة.
إن الأمن والاستقرار الدائمين في المنطقة لا يمكن أن يتحققا إلا بعد معالجة جذور الصراع بشكل كامل وشامل. وإن وقف حرب الإبادة الشرسة على غزة هو الخطوة الأولى والضرورية في هذا المجال. وعلى جميع الدول المتصلة بالصراع بطريقة أو بأخرى أن تدرك خطورة الأمر، وأن تبذل جهدًا حقيقيًا ومخلصًا في هذا الاتجاه.
